فصل: التفسير الإشاري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن خزيمة والدارقطني في الأفراد وأبو نصر السجزي في الإبانة والطبراني، عن ابن عباس قال: كنا في حلقة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم نتذاكر فضائل الأنبياء، فذكرنا نوحًا وطول عبادته، وذكرنا إبراهيم وموسى وعيسى فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما تذاكرون بينكم» فذكرنا له، فقال: «أما إنه لا ينبغي أن يكون أحد خيرًا من يحيى بن زكريا أما سمعتم الله كيف وصفه في القرآن {يا يحيى خذ الكتاب بقوّة} إلى قوله: {وكان تقيًا} لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها».
وأخرج ابن عساكر عن ابن شهاب: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه يومًا وهم يتذاكرون فضل الأنبياء فقال قائل: موسى كلمه الله تكليمًا، وقال قائل: عيسى روح الله وكلمته، وقال قائل: إبراهيم خليل الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أين الشهيد ابن الشهيد يلبس الوبر ويأكل الشجر مخافة الذنب يحيى بن زكريا».
وأخرج أحمد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والحاكم وابن مردويه، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ، أو هم بخطيئة، إلا يحيى بن زكريا، لم يهم بخطيئة ولم يعملها».
وأخرج ابن إسحق وابن أبي حاتم والحاكم عن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب، إلا ما كان من يحيى بن زكريا».
وأخرج أحمد في الزهد وابن عساكر، عن يحيى بن جعدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يحيى بن زكريا، ما هم بخطيئة ولا حاكت في صدره امرأة».
وأخرج ابن عساكر عن ضمرة بن حبيب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بعلت النساء عن ولد ينبغي له أن يقول: أنا أفضل من يحيى بن زكريا لم يحك في صدره خطيئة ولم يهم بها».
وأخرج ابن عساكر عن علي بن أبي طلحة رفعه قال: «ما ارتكض في النساء من جنين ينبغي له أن يقول: أنا أفضل من يحيى بن زكريا، لأنه لم يحك في صدره خطيئة ولم يهم بها».
وأخرج عبد الرزاق وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم، عن الحسن قال: إن عيسى ويحيى التقيا فقال يحيى لعيسى: استغفر لي أنت خير مني فقال له عيسى: بل أنت خير مني، سلم الله عليك، وسلمت أنا على نفسي، فعرف والله فضلها.
وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن حبان والطبراني والحاكم والضياء، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحسن والحسين سيدًا شباب أهل الجنة- إلا ابني الخالة- عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا».
وأخرج الحاكم من طريق سمرة، عن كعب قال: كان يحيى لا يقرب النساء ولا يشتهيهن، وكان شابًا حسن الوجه، لين الجناح، قليل الشعر، قصير الأصابع، طويل الأنف، أقرن الحاجبين، رقيق الصوت، كثير العبادة، قويًا في الطاعة.
وأخرج البيهقي في الشعب وضعفه وابن عساكر، عن أبي بن كعب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من هوان الدنيا على الله، أن يحيى بن زكريا قتلته امرأة».
وأخرج الحاكم عن عبد الله بن الزبير قال: من أنكر البلاء، فإني لا أنكره، لقد ذكر لي أنما قتل يحيى بن زكريا في زانية.
وأخرج إسحق بن بشر وابن عساكر من طريقه: أنا أبو يعقوب الكوفي، عن عمرو بن ميمون، عن أبيه، عن ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به رأى زكريا في السماء فسلم عليه فقال له: يا أبا يحيى، خبرني عن قتلك كيف كان؟ ولم قتلك بنو إسرائيل؟ قال: يا محمد، إن يحيى كان خير أهل زمانه، وكان أجملهم وأصبحهم وجهًا، وكان كما قال الله: {سيدًا وحصورًا} وكان لا يحتاج إلى النساء، فهويته امرأة ملك بني إسرائيل وكانت بغية فأرسلت إليه، وعصمه الله وامتنع يحيى وأبى عليها، وأجمعت على قتل يحيى، وَلَهُم عيد يجتمعون في كل عام، وكانت سنة الملك أن يوعد ولا يخلف ولا يكذب، فخرج الملك للعيد فقامت امرأته فشيعته، وكان بها معجبًا، ولم تكن تسأله فيما مضى، فلما أن شيعته قال الملك: سليني فما تسأليني شيئًا إلا أعطيتك، قالت: أريد دم يحيى بن زكريا. قال لها: سليني غيره. قالت: هو ذاك. قال: هو لك، فبعثت جلاوزتها إلى يحيى وهو في محرابه يصلي، وأنا إلى جانبه أصلي، فذبح في طست، وحمل رأسه ودمه إليها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فما بلغ من صبرك؟ قال: ما انفتلت من صلاتي، فلما حمل رأسه إليها ووضع بين يديها،- فلما أمسوا- خسف الله بالملك وأهل بيته وحشمه، فلما أصبحوا قالت بنو إسرائيل: لقد غضب إله زكريا لزكريا، فتعالوا حتى نغضب لملكنا، فنقتل زكريا، فخرجوا في طلبي ليقتلوني، فجاءني النذير، فهربت منهم وإبليس أمامهم يدلهم علي: فلما أن تخوفت أن لا أعجزهم، عرضت لي شجرة فنادتني فقالت: إلي إلي، وانصدعت لي، فدخلت فيها، وجاء إبليس حتى أخذ بطرف ردائي، والتأمت الشجرة وبقي طرف ردائي خارجًا من الشجرة، وجاء بنو إسرائيل، فقال إبليس: أما رأيتموه دخل هذه الشجرة! هذا طرف ردائه دخل به الشجرة، فقالوا: نحرق هذه الشجرة، فقال إبليس: شقوه بالمنشار شقًا. قال: فشققت مع الشجرة بالمنشار. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا زكريا، هل وجدت له مسًا أو وَجعًا؟ قال: لا، إنما وجدت تلك الشجرة جعل الله روحي فيها».
وأخرج ابن عساكر، عن وهب بن منبه أن زكريا هرب ودخل جوف شجرة، فوضع على الشجرة المنشار وقطع بنصفين، فلما وقع المنشار على ظهره أنَّ، فأوحى الله «يا زكريا إما أن تكف عن أنينك، أو أقلب الأرض ومن عليها» فسكت حتى قطع نصفين.
وأخرج أحمد في الزهد وابن عساكر عن يزيد بن ميسرة قال: كان طعام يحيى بن زكريا الجراد وقلوب الشجر، وكان يقول: من أنعم منك يا يحيى؟ طعامك الجراد وقلوب الشجر.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن عساكر، عن أبي إدريس الخولاني وابن المبارك وأحمد في الزهد وأبو نعيم، عن مجاهد قالا: كان طعم يحيى بن زكريا العشب، وإن كان ليبكي من خشية الله، حتى لو كان القار على عينه لأحرقه! ولقد كانت الدموع اتخذت مجرى في وجهه.
وأخرج ابن عساكر، عن يونس بن ميسرة قال: مر يحيى بن زكريا على دينار فقال: قبح هذا الوجه يا دينار، يا عبد العبيد، ومعبد الأحرار.
وأخرج البيهقي في سننه، عن مجاهد قال: سأل يحيى بن زكريا ربه؟ قال: رب، اجعلني أسلم على ألسنة الناس، ولا يقولون فيّ إلا خيرًا. فأوحى الله إليه: يا يحيى لم أجعل هذا لي، فكيف أجعله لك؟.
وأخرج أحمد والبيهقي في الشعب وابن عساكر، عن ثابت البناني قال: بلغنا أن إبليس ظهر ليحيى بن زكريا، فرأى عليه معاليق من كل شيء، فقال له يحيى: ما هذه؟! قال: هذه الشهوات التي أصيب بها بنو آدم. قال له يحيى: هل لي فيها شيء؟ قال: لا. قال: فهل تصيب مني شيئًا؟ قال: ربما شبعت، فثقلناك عن الصلاة والذكر. قال: هل غيره؟ قال: لا. قال: لا جرم، لا أشبع أبدًا.
وأخرج ابن عساكر من طريق علي بن زيد بن جدعان، عن علي بن الحسين، عن الحسين بن علي قال: كان ملك مات وترك امرأته وابنته، فورث ملكه أخوه، فأراد أن يتزوج امرأة أخيه، فاستشار يحيى بن زكريا في ذلك، وكانت الملوك في ذلك الزمان يعلمون بأمر الأنبياء، فقال له: لا تتزوّجها فإنها بغي، فبلغ المرأة ذلك، فقالت: ليقتلن يحيى أو ليخرجن من ملكه. فعمدت إلى ابنتها فصيغتها، ثم قالت اذهبي إلى عمك عند الملأ، فإنه إذا رآك سيدعوك، ويجلسك في حجره ويقول: سليني ما شئت، فإنك لن تسأليني شيئًا إلا أعطيتك، فإذا قال لك قولي: فقولي لا أسألك شيئًا إلا رأس يحيى، وكانت الملوك إذا تكلم أحدهم بشيء على رؤوس الملأ، ثم لم يمض له، نزع من ملكه.
ففعلت ذلك، فجعل يأتيه الموت من قتله يحيى، وجعل يأتيه الموت من خروجه من ملكه، فاختار ملكه، فقتله، فساخت بأمها الأرض. قال ابن جدعان: فحدثت بهذا الحديث ابن المسيب، فقال: أما أخبرك كيف كان قتل زكريا؟ قلت: لا. قال: إن زكريا حيث قتل ابنه، انطلق هاربًا منهم، واتبعوه حتى أتى على شجرة ذات ساق، فدعته إليها فانطوت عليه، وبقيت من ثوبه هدبة تلعبها الريح، فانطلقوا إلى الشجرة فلم يجدوا أثره عندها، فنظروا تلك الهدبة، فدعوا المنشار، فقطعوا الشجرة فقطعوه فيها.
وأخرج ابن عساكر عن ابن عمرو قال: التي قتلت يحيى بن زكريا امرأة ورثت الملك عن آبائها، فأتيت برأس يحيى وهي على سريرها، فقال للأرض خذيها فأخذتها وسريرها فذهب بها.
وأخرج إسحق بن بشر وابن عساكر، عن عبد الله بن الزبير: أن ملكًا أراد أن يتزوج ابنة أخيه، فاستفتى يحيى بن زكريا؟ فقال: لا تحل لك. فسألت قتله؟ فبعث إليه- وهو في محرابه يصلي- فذبحوه، ثم حزوا رأسه وأتوا به الملك، فجعل الرأس يقول: لا يحل لك ما تريد.
وأخرج ابن عساكر عن ابن شوذب قال: قال يحيى بن زكريا للذي جاء يحز رأسه: أما تعلم أني نبي؟ قال: بلى، ولكني مأمور.
وأخرج الحاكم وابن عساكر، عن ابن عباس قال: أوحى الله إلى محمد- صلى الله عليه وسلم- إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفًا وإني قاتل بابن ابنتك سبيعن ألفا وسبعين ألفًا.
وأخرج ابن عساكر، عن شمر بن عطية قال: قتل على الصخرة التي في بيت المقدس سبعون نبيًا منهم يحيى بن زكريا.
وأخرج ابن عساكر عن قرة قال: ما بكت السماء على أحد، إلا على يحيى بن زكريا، والحسين بن علي، وحمرتها بكاؤها.
وأخرج أحمد في الزهد، عن خالد بن ثابت الربعي قال: لما قتل فجرة بني إسرائيل- يحيى بن زكريا، أوحى الله إلى نبي من أنبيائهم: أن قل لبني إسرائيل «إلى متى تجترئون على أن تعصوا أمري، وتقتلوا رسلي؟ وحتى متى أضمكم في كنفي؟ كما تضم الدجاجة أولادها في كنفها، فتجترئون علي! اتقوا، لا أؤاخذاكم بكل دم كان بين ابني آدم ويحيى بن زكريا، واتقوا، أن أصرف عنكم وجهي، فإني إن صرفت عنكم وجهي لا أقبل عليكم إلى يوم القيامة».
وأخرج أحمد عن سعيد بن جبير قال: لما قتل يحيى عليه السلام قال: بعض أصحابه لصاحب له: ابعث إلي بقميص نبي الله يحيى أشمه، فبعث به إليه، فإذا سداه ولحمته ليف!.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، عن يونس بن عبيد قال: بلغنا أنه كان رجل يجور على مملكته ويعدي عليهم، فائتمروا بقتله، فقالوا: نبي الله زكريا بين أظهرنا، فلو أتيناه فأتوا منزله، فإذا فتاة جميلة رائعة قد أشرق لها البيت حسنًا، فقالوا: من أنتِ؟ قالت: امرأة زكريا. فقالوا فيما بينهم: كنا نرى نبي الله لا يريد الدنيا، فإذا هو عنده امرأة من أجمل النساء، ثم إنهم رأوه في عمل عند قوم ويعمل لهم، حتى إذا حضر غداؤه قرب رغيفين، فأكل ولم يدعهم، ثم قام فعمل بقية عمله، ثم علق خفيه على عنقه والمسحاة والكساء، قال: ما حاجتكم؟ قالوا: قد جئنا لأمر، ولقد كاد يغلبنا ما رأينا، على ما جئنا له. قال: فهاتوا؟ قالوا: أتينا منزلك، فإذا امرأة جميلة رائعة! وكنا نرى نبي الله لا يريد الدنيا، فقال: إني إنما تزوجت امرأة جميلة رائعة، لأكف بها بصري، وأحفظ بها فرجي، فخرج نبي الله مما قالوا. قالوا: ورأيناك قدمت رغيفين، فأكلت ولم تدعنا؟! قال: إن القوم استأجروني على عمل، فخشيت أن أضعف عن عملهم، ولو أكلتم معي لم يكفني ولم يكفكم، فخرج نبي الله مما قالوا. قالوا: ورأيناك وضعت خفيك على عنقك، والمسحاة والكساء. فقال: إن هذه الأرض جديدة، وكرهت أن أنقل تراب هذه في هذه، فخرج نبي الله مما قالوا. قالوا: إن هذا الملك يجور علينا ويظلمنا، وقد ائتمرنا لقتاله. قال: أي قوم، لا تفعلوا، فإن إزالة جبل من أصله أهون من إزالة ملك مؤجل. والله أعلم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)}.
قوله: {سَوِيًّا}: حالٌ مِنْ فاعل (تُكَلِّمَ). وعن ابن عباس: أنَّ {سَوِيًَّا} من صفةِ الليالي بمعنى كاملات، فيكونُ نصبُه على النعتِ للظرف. والجمهورُ على نصب ميم {تُكَلَّم} جعلوها الناصبةَ.
وابن أبي عبلة بالرفعِ، جَعَلها المخففةَ من الثقيلة، واسمُها ضميرُ شانٍ محذوف، و لا فاصلةٌ. وتقدَّم تحقيقُه.
{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)}.
قوله: {أَن سَبِّحُواْ}: يجوز في {أَنْ} أَنْ تكونَ مفسِّرةً لأَوْحى، وأَنْ تكونَ مصدريةًَ مفعولةً بالإِيحاء. و{بُكْرَةً وَعَشِيًّا} ظرفا زمانٍ للتسبيح. وانصرفَتْ {بُكْرَة} لأنه لم يُقْصَد بها العَلَمِيَّةُ، فلو قُصِد بها العَلَميةُ امتنعت عن الصرف. وسواءً قُصد بها وقتٌ بعينه نحو: لأسيرنَّ الليلةَ إلى بكرةَ، أم لم يُقصد نحو: بكرةُ وقتٌ نشاط لأنَّ عَلَمِيَّتها جنسيَّة كأُسامة، ومثلُها في ذلك كله {غدوة}.
وقرأ طلحة {سَبَّحوه} بهاءِ الكناية. وعنه أيضًا: {سَبِّحُنَّ} بإسناد الفعل إلى ضمير الجماعة مؤكَّدًا بالثقيلة وهو كقولِه: {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} [هود: 8] وقد تقدَّم تصريفه.
{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)}.
قوله: {بِقُوَّةٍ}: حالٌ من الفاعل أو المفعول، أي: ملتبسًا أنت، أو ملتبسًا هو بقوة. و{صَبِيَّا} حال من هاء {آتيناه}.
{وَحَنَانًا}: يجوز أَنْ يكونَ مفعولًا به نَسَقًا على {الحُكْمَ}، أي: وآتيناهُ تَحَنُّنًا. والحنانُ: الرحمةُ واللِّيْن، وأنشد أبوعبيدة:
تحنَّنْ عليَّ هداك المليكُ ** فإنَّ لكلِّ مقامٍ مَقالا

قال: وأكثر استعمالِه مثنَّى كقولِهم: حَنَانَيْكَ، وقولِه:
............................ ** حَنَانَيْكَ بعضُ الشرِّ أهونُ مِنْ بعضِ

وجوَّز فيه أبو البقاء أَنْ يكونَ مصدرًا، كأنَّه يريد به المصدرَ الواقعَ في الدعاء نحو: سَقْيًا ورَعْيًا، فنصبُه بإضمارِ فِعْلٍ كأخواتِه. ويجوز أَنْ يرتفعَ على خبر ابتداءٍ مضمرٍ نحو: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18] و{سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} [الاعراف: 46، الرعد: 24، الزمر: 73] في أحد الوجهين: وأنشد سيبويه:
وقالَتْ حَنانٌ ما أَتَى بك هاهنا ** أذو نَسَبٍ أَمْ أنتَ بالحَيِّ عارِفُ

وقيل لله تعالى: حَنان، كما يقال له (رَحيم) قال الزمخشري: (وذلك على سبيل الاستعارة).
و{مِّن لَّدُنَّا} صفةٌ له.
{وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)}.
قوله: {وَبَرًّا}: يجوز أن يكون نَسَقًا على خبر (كان)، أي: كان تقيًَّا بَرًَّا. ويجوز أَنْ يكون منصوبًا بفعلٍ مقدر، أي: وجَعَلْناه بَرًَّا. وقرأ الحسن {بِرًَّا} بكسر الباء في الموضعين. وتأويلُه واضح كقوله: {ولكن البر مَنْ آمَنَ} [البقرة: 177] وتقدَّم تأويلُه. و{بِوالِدَيْهِ} متعلِّقٌ ب {بَرًَّا}. و{عَصِيَّا} يجوز أَنْ يكونَ وزنُه فَعُولًا، والأصل: عَصُوْيٌ فَفُعِل فيه ما يُفْعَل في نظائره، وفَعُول للمبالغة كصَبُوْر. ويجوز أَنْ يكونَ وزنُه فَعِيلًا، وهو للمبالغة أيضًا. اهـ.

.التفسير الإشاري:

قال نظام الدين النيسابوري:
التأويل:
إن زكريا الروح {نادى ربه نداء خفيًا} من سر السر {قال رب إني وهن} مني عظم الروحانية واشتعل شيب صفات البشرية، وإني خفت صفات النفس أن تغلب {وكانت امرأتي} يعني الجثة التي هي روح الروح {عاقرًا} لا تلد إلا بموهبة من الله {فهب لي من لدنك} سأل {وليًا} فأعطاه الله نبيًا وهو في الحقيقة القلب الذي هو معدن العلم اللدني فإنه ولد الروح والنفس أعدى عدوه {يرثني ويرث من آل يعقوب} أي يتصف بصفة الروح وجميع الصفات الروحانية {واجعله رب رضيًا} بأن توطنه من تجلي صفات ربوبيتك ما يرضى به نظيره {ولسوف يعطيك ربك فترضى} [الضحى: 5] {اسمه يحيى} إن الله أحياه بنوره {ولم نجعل له من قبل سميًا} لا من الحيوانات ولا من الملائكة لأنه هو الذي يقبل فيض الألوهية بلا واسطة، وهو سر حمل الأمانة كما قال: «ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن» {وقد بلغت من الكبر} أي بسبب طول زمان تعلق القلب بالقالب {عتيًا} يبسًا وجفافًا من غلبات صفات النفس {آيتك أن لا تكلم الناس} لا تخاطب إلا الله ولا تلتفت إلى ما سواه {ثلاث ليال} هي ثلاث مراتب الجماديات والحيوانيات والروحانيات {سويًا} متمكنًا في هذا الحال من غير تلون {فخرج} زكريا الروح من محراب هواه وطبعه على قوم صفات نفسه وقلبه وأنانيته، فأشار إليهم أن كونوا متوجهين إلى الله معرضين عما سواه آناء الليل وأطراف النهار بل بكرة الأزل وعشيّ الأبد {يا يحيى} القلب {خذ} كتاب الفيض الإلهي المكتوب لك في الأزل {بقوة} ربانية لا بقوة جسدانية لأنه خلق ضعيفًا {وآتيناه الحكم} في صباه إذ خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره {زكاة} وتطهرًا من الالتفات إلى غيرنا {وبرًا بوالديه} الروح والقالب.
أما البروح فلأن القلب محل قبول الفيض الإلهي لأن الفيض نصيب الروح أوّلًا ولكن لا يمسكه لغاية لطافته كما أن الهواء الصافي لا يقبل الضوء وينفذ فيه، وأما القلب ففيه صفاء وكثافة فبالصفاء يقبل الفيض وبالكثافة يمسكه، وهذا أحد أسرار حمل الأمانة. وأما بر والدة القلب فهو استعمالها على وفق الشريعة والطريقة {ولم يكن جبارًا عصيًا} كالنفس الأمارة بالسوء {وسلام عليه يوم يولد} في أصل خلقه {ويوم يموت} من استعمال المعاصي بالتوبة {ويوم يبعث حيًا} بالتربية والترقي إلى مقام السلامة الله حسبي. اهـ.